الخميس، 6 ديسمبر 2012

بائع الرماد


مكر النساء



يحكى عن رجل اسمه عامر قصة ظريفة مع أمه، كانت تردد أمامه منذ صغره قولتها "يومي قبل يومك يا حبيبي"، فأراد يوماً اختبار صدقها، أخبرها أنه ذاهب في قافلة للساحل ليتعلم التجارة مثل أبيه المتوفى، لكنه عاد في الليل متخفياً، كانت هي قد أغلقت على نفسها غرفة الطين، وقف بالباب وغيّر صوته وأخذ ينادي
-يا عامر....يا عامر....
أجابته من الداخل وهي فزعة
- من أنت
-أنا عزرائيل وقد جئت لآخذ روح عامر.
-عامر ليس هنا، عد من حيث أتيت.
-إذن سآخذ روحك أنتِ بدلاً منه، لا أستطيع العودة بدون روح.
-لا.... أرجوك........اذهب وستجده في قافلة في الطريق المؤدي للساحل.

ضحك منها بشدة، لكن هذه الحادثة أقنعت الأم أن عامر قد كبر وصار يفهم الكثير، فأرادت أن تبعثه للساحل في تجارة، ومع أنه لا يملك شيئاً يتاجر به، إلا أن الأم الذكية تعرف أن نساء المدينة على الساحل يتجملن ويتزينّ، ومما يفعلنه في ذلك أنهن ينزعن شعر الجسم باستخدام عجين الطين والرماد. أشارت على عامر أن يجمع ما استطاع من الرماد ويذهب به إلى الساحل ويبيعه في السوق.

ملأ كيساً بالرماد وسار به على ظهره لثلاثة أيام حتى وصل للساحل، جلس في ساحة السوق يعرض بضاعته، وكلما مرّ عليه أحد ونظر لما في الكيس ضحك منه، حتى جاءت امرأة عجوز ووقفت متعجبة، ثم تفرست في الفتى الذي لم يكتمل شاربه بعد وقالت
-أبوك غائب وأمك من بعثتك هنا لتبيع الرماد.
-نعم......كيف عرفتِ ذلك.
-يا ولدي كاد السوق أن ينقضي، وبعد قليل ستغرب الشمس، وأنت ليس لك مكان تبيت فيه، هيا معي ، فلن يشتري أحد منك هذا الرماد.

ألقى عامر الرماد وتبع العجوز إلى بيتها، وهناك أرسلت العجوز في طلب زوجة القاضي وطلبت منها استضافة الفتى في بيتها لتلك الليلة، طلبت زوجة القاضي من الفتى أن يستعد حتى تذهب وتعد المكان وتعود لاصطحابه، ذهبت وأعدت الفراش وبخرت الغرفة وجهزتها بالماء والطعام، ثم استأذنت زوجها أن تبيت مع أمها تلك الليلة لأنها مريضة، وقبل أن تخرج لأمها متعجلة تذكرت أن تخبره بأن قريبها سيصل هذه الليلة من السفر مع زوجته وأوصته بأن يدخلهما الغرفة ليناما وسيغادران في الفجر، عادت لبيت العجوز وبعد اختلاط الظلام طلبت من عامر أن يمشي أمامها لبيت زوجها وهي خلفه متجللة بالعباءة، طرق عامر الباب وكلم القاضي بأنه قريب زوجته ، رحب بهما القاضي وأدخلهما الغرفة وذهب لينام في العريش. قبل الفجر قامت الزوجة وأيقظت عامر وخرجا من البيت إلى بيت العجوز.
شكر عامر العجوز بعد أن فهم الرسالة وعرف أنه وقع ضحية لمكر أمه وعزم على البقاء هنا وعدم العودة.



لحية عامر

عمل عامر عند أحد التجار، ولما رأى التاجر حسن أخلاقه وجده في العمل عهد به إلى معلم، وبعد أن تعلم وصار حاذقاً بعثه في تجارته، سافر لمدن عديدة وتعلم أشياء كثيرة، ثم وقع في حب بنت التاجر الجميلة الذكية مريم، ووقعت هي في حبه، وتزوجا وعاشا بهناء وسعادة.
اكتملت رجولة عامر، وأنجب من مريم ولداً وسيماً وبنتين جميلتين، عبدالله في الثامنة عشرة، وريم في السابعة عشرة وجوهرة في الخامسة عشرة، وصلته أخبار أن أمه قد توفيت، وفي لحظة كان ينظر فيها لأبنائه على الغداء وجد نفسه يقرر أن لا مفر من العودة.
عندما عاد للبلدة فاجأت هيئته الكل، لقد كان حليق اللحية على خلاف الرجال هناك، وصار كل الرجال يتكلمون مستهجنين هذا الأمر، في أول يوم من وصوله، اجتمع الرجال بعد صلاة المغرب، وقرروا أن وجوده بهذا الشكل خطر على بلدتهم، قال أحدهم
-سيراه الأبناء وسيقلدونه وسيحلقون لحاهم.
وقال آخر
-هذا فاسق.
وقال ثالث
-هذا متشبه بالنساء.

اتفقوا على أن يطردوه من البلدة، وبعثوا له من يخبره بأنهم يمهلونه حتى الصباح ليخرج، وإن رأوه بعدها فلا يلومن إلا نفسه.
احتار عامر كيف يفعل، لكن مريم كان عندها الرأي السديد، نصحته بأن لا يخرج من البيت ، وهي ستتكفل بكل ما يحتاجونه من الخارج حتى ينمو شعر لحيته. في صباح اليوم التالي كان الرجال متأهبين خارج البيت ليشاهدوه وهو يرحل، كان يعلو وجوههم الغضب والنظرات المتحفزة. خرجت مريم تحمل وعاءً قاصدةً البئر لتحضر الماء، وعلى عادة نساء الساحل كان حجابها لا يغطي وجهها بخلاف نساء البلدة، من فرط جمالها فتحوا أفواههم وهم ينظرون لها، ثم تدافعوا نحوها ليساعدوها على جلب الماء، وكادت تنشب نزاعة بينهم على من سيحمل لها وعاء الماء إلى بيتها، لكنها بحكمتها المعتادة وفقت بينهم وقسمت العمل عليهم طوال الأسبوعين القادمين.








عامر الساحر


كل الرجال كانوا معجبين بمريم، ويحسدون عامر على جمالها، لكنهم كانوا يذمونها أمام نسائهم، تعودوا على القول "إنها شيطان يمشي" و "إنها من عمل إبليس" و "نخاف أن تفتن أبناءنا" ، وعندما سمعت النساء هذا الكلام عن مريم بدأن بزيارتها ليتعلمن من فتنتها، كانت رقيقة عفيفة ، كلامها لطيف وملبسها نظيف، وعلى عادة أهل المدن مجلسها مزين ومطيّب....تعجبت إحداهن من جلدها الخالي من الشعر، فأخبرتها مريم بالسر، وأعجبت أخرى بشعرها المنسدل الفواح، فأهدتها مريم دهناً معطراً، وامتدحت ثالثة لؤلؤ ثغرها فأرشدتها للسواك.
بعد أسبوعين كانت لحية عامر قد نمت، لم يكن طولها بمقاييس البلدة إلا أنها كانت كافية للجم الأفواه. أول خروجه كان للصلاة، وبالرغم من أن الجميع تجاهله في البداية إلا أنه بخبرته في التعامل التي اكتسبها من عمله في التجارة استطاع أن يكسر الجليد بينه وبين البقية. وأيضاً من خبرته في الأسفار والاتجاهات ومواقع النجوم أدرك أن اتجاه قبلة المسجد منحرفة عن الوجه الصحيح، وما إن أبدى هذه الملاحظة حتى ثار عليه الإمام، واتهمه أنه يريد أن يشكك الناس في دينهم، ثم أخذ يؤلب الناس عليه.
سكت عامر حتى أنتهى الإمام، ثم أشار إلى أنقاض المسجد القديم الباقية بمواجهة المسجد الحالي، وكان الفرق واضحاً بين المسجدين في اتجاه القبلة. ما إن أدبر عامر عنهم وهم متعجبين كيف لم يلاحظوا طول هذا الزمن اختلاف القبلة حتى قال الإمام
-هذا ساحر...نعم ساحر.....لقد أدار المسجد عن القبلة بسحره.
قال واحد عن يمينه
-أنا أشهد أنه ساحر.....ومن يقدر على هذه غير الساحر!!!
ثم رددوا كلهم....نعم هو ساحر.
دعا الإمام الكل للاجتماع في الغد للتشاور في أمر الساحر عامر، كان في ذهن الجميع أنهم سيفعلون معه مثلما فٌعِل قديماً مع أحد السحرة من بلدتهم، سيدعونه لوليمة، وسيدسون له الزنيخ في الطعام، فإن سقط يتلوى فهو ساحر وسيموت سريعاً، فالسحرة يسمهم الزرنيخ، وإن كان غير ذلك فلن يضره.
لكن الأوان كان قد فات على هذه الخطة، ففي صباح ذلك اليوم كانت حسينة بنت الإمام قد دخلت مع أمها لبيت عامر، ورآها ابنه عبدالله، ورغم أنها مازالت في السن صغيرة وبالكاد بلغت الثالثة عشرة، إلا أنها كانت قد استوت، ونمت محاسنها وأثمرت، سقط عبدالله صريع سهمها من فوره، وأقسم أن لا يأكل ولا يشرب حتى يكلم أبوه أباها، وما كاد الإمام يصل لبيته وهو يفكر في أحداث الغد حتى طرق عامر الباب، وكلم الإمام في أمر الصبية الحسناء.
مثل عامر لا يرد ، تاجر وغني، وابنه متعلم ومؤدب....هذا كان كلام الإمام في نفسه لنفسه....
وهكذا اتفق عامر والإمام على أن الصبية الجميلة للفتى الوسيم، وكانت مناسبة أن يتعرف الإمام أكثر على عامر ويقتنع تماماً أنه ليس بساحر، والأكثر من ذلك أنه تأكد من تقواه وصلاحه وكرمه وعلمه.....هكذا قال الإمام لأهل البلدة حين جاءوا في الغد ليتفقوا على قتل عامر!!!.


عامر الباني


مضت السنين، وصار عامر مضرب المثل في كل شيء، كيف لا وقد تبدلت كل أحوالهم بسببه، حتى نساؤهم صرن أجمل، ورجالهم صاروا أكثر دماثة وعقلاً، وأبناؤهم وبناتهم صاروا يتعلمون في كتاب أنشأه بقرب المسجد.
نظر يوماً للوادي الذي أسفل البلدة فرآه يجري بالماء، وعندما سأل عن سبب عدم استغلاله لزراعة المزيد من الأرض قيل له أن أهل البلدة التالية يعترضون على ذلك مع أن الكثير من الماء يذهب هدراً........كان عامر قد رأى في بلاد الفرس كيف تبنى السدود على الأودية، فكر في بناء سد على الوادي، ثم منه تشق قناتان متساويتان لكل بلدة. عرض الأمر على أهل بلدته والبلدة الأخرى، واتفق الجميع على الرأي السديد، وتعاون أهل البلدتين على سد بوابة الوادي الضيقة بالحجارة المرصوصة، فتكونت خلفها بحيرة ماء عظيمة......زادت الزروع والمواشي، ونشطت تجارات الثمار والحبوب مع الساحل، وصار الناس أغنى، وثيابهم أحلى، ورائحتهم أطيب، جددوا بيوتهم ووسعوها، وجملوا بلدتهم ونظفوها.....صار البِشر يعلوا الوجوه، والحمد للمولى على نعمه على كل لسان وفي كل حين.



موت عامر



وتمضي سنين أخرى، شاخ عامر وشاخت مريم، في كل جمعة يجتمع لديه ابنه عبدالله وابنتيه التين تزوجتا وأبنائهم، عبدالله أنجب ولداً سماه على اسم والده "عامر"، كان جده يحبه كثيراً لأنه يشبهه. في أحد الأيام انتبه عامر من النوم وقد طلعت الشمس، لم توقظه مريم كعادتها لصلاة الفجر، لأنها نامت نومتها الأخيرة. بكاها عامر أياماً وليالي، ولم تفلح مواساة الأهل والأصحاب، أكل الحزن كبده وقلبه...ومات بعدها بعشر ليال.
فجع الناس بموت عامر وقبله مريم، بكوهما ترحموا عليهما، ولم يبقى بعد ذلك سوى التقدير والاحترام لذريتهما من بعدهما.


عبدالله



مضت أعوام بعد وفاة عامر، والبلدة كما كانت على عهده، والناس تسري بينهم روح المحبة والتعاون التي أشاعها في حياته. إبنه عبدالله كان رجلاً طموحاً، وقد رأى ما وصل له أبوه وما كان له من فضل على أهل بلدته وغيرهم، لكنه كان دوماً يأخذ عليه لينه وطيبته.
في أحد الأيام من تلك السنة الخصيبة أراد رجل من أهل البلدة أن يستصلح أرضاً بوراً ليزرعها قمحاً، وبعد أن بدأ العمل بتمهيدها وتنظيفها فوجئ بعبدالله مع رجلين من أعوان الحاكم يطلب منه التوقف، ولما استفسر الرجل المسكين عن السبب أخبره أن استصلاح الأرض تعدٍ على أملاك الدولة.......وهكذا بدأ عبدالله يتدخل في كل شأن بعد أن فوضه الحاكم لتطبيق القوانين الجديدة . بدأت الأحوال تتغير، وبدأ الحسد يدب في قلوب البعض بسبب الحضوة التي يجدها عبدالله عند الحاكم، واحتدم التنافس بين الجميع. مرت بهم سنة مجدبة حبس فيها المطر، فقطع عبدالله الماء عن البلدة الأخرى ووجه مياه السد لبساتينه، فما كان من أهل تلك البلدة إلا أن هدموا السد ليعود الماء للوادي. ثم أعقبت تلك السنة سنة مجدبة أخرى، فانقطعت كل المياه من الوادي، ويبست البساتين، وتوقفت التجارات، وهجر البعض البلدة، ومات عبدالله كمداً وهو يرى بساتينه تصفر وتيبس.


عودة عامر


مات عبدالله وترك ابنه عامر وهو في عمر العاشرة، ويحكى أن أمه كانت لفرط حبها له تردد دوماً "يومي قبل يومك يا حبيبي" وأنه حينما بلغ الرابعة عشرة كان يبيع الرماد في سوق الساحل.



النهاية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق