لو كانت النخلة أطول بعشرين أو ثلاثين سنتيمتراً لضمني ظلها، هكذا كنت أفكر وأنا أجهز الأرض للزهور قرب الممر، فتح باب وفرت منه بضع نغمات بيانو تسابقها مناداة باسمها........ خنقت نغمات البيانو وولدت نغمات خطى لاهية، اشتقت للنظر لكن الشمس رفعت سياطها على جانب وجهي فبقي دون التفات، اقترب عزف الخطى نحوي على إيقاع قضم تفّاحة، وقفت العازفتان اللاهيتان أمامي على الممر الحجري، أبصرتهما على إيقاع مضغ التفاح، قدماها ..... قدّيستان توأمتان، مستلقيتان على سريرين ورديين وتلبسان عقدين مزينين بالؤلؤ.
قالت وهي تدير مضغة التفاح بلسانها
-أنت جديد!؟
وددت أن أرفع وجهي لأجيبها لكن أشواك الشمس اخترقت عيني فأعدت وجهي للأرض، قلت
-نعم سيدتي......بدأت عملي هنا اليوم فقط.
عزفت خطوتين للأمام ثم استدارت لي قائلة
-عرفت أنك جديد، يد البستاني السابق كانت أكثر سمرة من يدك.
تمايل أسفل ردائها في حركة لولبية ونفرت شرايين القديستان تحت البشرة الشفافة...... قضمت تفاحتها .......قالت
-لا أحب هذه النخلة تحت نافذتي، كلّها أشواك، لا أدري مالذي يعجب أبي فيها!!!، سأقترح عليه أن يقلعها ويضع مكانها شجرةً أخرى، ما رأيك؟
-سيدتي....النخلة هذه بلدها ، أين ستذهب المسكينة لو قلعت.
هيء لي أنها أمسكت ذقنها تفكّر خلال السكتة التي أعقبت كلامي. نزلت من الممر للعشب تمشي، أحسستها وقفت بين ورائي والنخلة، فكرت أنها اللحظة المناسبة لأرى وجهها دون أن تراني الشمس، تظاهرت أني أزحف للوراء أبحث عن شيء حتى غافلت الشمس وتلحفت بظل النخلة، رسمت ملامح العفوية على وجهي واستدرت نحوها......شهقت وأنا أسقط من أعلى شلّال الشعر وأنساب معه حتى الخصر، تعلقت بأطرافه الذهبية أتأرجح.
لا أدري متى التفتت نحوي، أجزم أن السقوط والتأرجح أفقداني الوعي للحظة، تمنيت لو أن خالها الذي بين حاجبيها هو بيتي. قالت وهي تمسح رحيق التفاح عن جانبي الفستقة
-تكلمت عن النخلة وكأنها شيء حي، لقد نظرت لها الآن.....إنها ليست إلا شجرة.
من فرط جمالها أشفقت على نفسي وفضّلت أن أعود بوجهي حيث كان، قلت
-نعم يا سيدتي، هي شجرة لكنها مع ذلك تشبه أهل هذه البلد، قامتها مستقيمة ، وكريمة ، وصبورة.
شعرت بالتفاتتها نحو النخلة قالت وصوتها متجه لهناك
-أممممم......فعلاً، كيف لم أنتبه لذلك، ولها شعر أيضاً، لكن لا تعجبني تسريحتها.
تغير فصل السنة، وجئت بزهور الربيع الملونة لأزرعها. فتح الباب وخرجت منه الخطى اللاهية بإيقاع متسارع، انتظرت حتى وقفت أمامي، قالت
-أريدك أن تحلق شعر هذه النخلة التي بقرب نافذتي.
-تقصدين أقطع سعفها، لكن لماذا يا سيدتي؟!......السعف ضروري للنخلة.
-إنها تخربش على نافذتي طول الوقت، أكاد أموت غيظاً بسبب خربشتها الغبيّة.
-أستطيع يا سيدتي أن أقطع السعف، لكن لا يمكن وقف الريح، ستنمو سعفات جديدة وستحركها الريح هي الأخرى وستخربش.
-إذن اقلع النخلة بكلها.
-سيدتي..... أرجوك، قد يغضب منّي أبوك لو فعلت ذلك.
-لا تقلق لهذا الأمر أبداً، هناك نخيل صناعية لا تحركها الريح، بعد أن تقلع هذه سنضع واحدة مكانها ولن يحس أبي بالفرق.
شكراً لكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق