الخميس، 20 ديسمبر 2012

تعشير البقرة

المزاح مع الأحمق قد يؤدي لمصائب، وهذا ما فعلته أنا، بالأمس جاءني أحدهم في العزبة، وأثناء تناول القهوة أخبرني بسعادة أن بقرته عشّرت أخيراً.......في رابع محاولة، سألته

-لماذا .....مالذي حدث قبل ذلك؟

-لا أدري، لم تعشّر.....ذهبت بها لثور خليفين ثلاث مرات قبل ذلك وفي كل مرّة أعطيه خمسة ريالات.

-وفي المرة الأخيرة ذهبت بها لثور خليفين أيضاً؟

-لا.....جاري جاء بثور ليذبحه وقبل ذلك تكفل بالمهمة.

-يا أخي أو لم تعرف السبب بعد، أحقاً لم تعرف سبب عدم تعشير البقرة في المرات الثلاث قبل ذلك؟

-لا لم أعرف......قل لي أرجوك.

-كلّك نظر يا أخي......ثور خليفين مثل خليفين.....كيف تريده أن يلقّح!؟!؟!

-إذن هكذا الأمر.

وذهب عنّي الرجل وحسبت أن الموضوع انتهى، لكنه لم ينتهي، الرجل ذهب لخليفين ولم يترك عنه وعن ثوره كلمة إلا قالها، وفضحه فضيحة مدوية.......وتهدده بالشكوى عند الوالي.

بالأمس صباحاً علمت أن أخينا كان في مكتب الوالي لكني لست واثقاً إن كان فعلاً ذهب ليشتكي بخصوص ثور خليفين.

الله يستر

شكرا لكم

الأربعاء، 19 ديسمبر 2012

الشعر والشعراء



أولاً أنا ليس لي في الشعر لا من قريب ولا حتى من بعيد، ولا أحفظ اسم شاعر من شعراءنا باستثناء الأخت فاطمة الكعبي بحكم حضور اسمها في منتدى الحارة وأخواني سعيد بن عديل الجابري وراشد الشامسي ومحمد البادي لكونهم من البريمي، وليس هذا لقصور بإخواننا الشعراء ولكن لتقصير مني أنا.

ومع ذلك فأنا أدرك أن للشعر والشعراء أهمية قصوى لأي ثقافة مجتمع، ولا تخفى أهمية الشعر بالنسبة للغة على أي أحد، كما أنهم ترمومتر حساس لثقافة المجتمع وليس لحضارته، فالأمران مختلفان.

ما جعلني أطرق هذا الباب هو حديث قصير دار بيني وبين الشاعر محمد البادي في أحد الأيام، قال لي كلاماً وجدته محبطاً للغاية، قال إن أول ملاحظة تلاحظها على إخواننا الشعراء العمانيين هو استيرادهم للهجة ليست لهم، وضرب لي بعض الأمثلة(أرجو أن أكون فهمته بشكل صحيح).

الملاحظة الثانية التي ساقها لي البادي، والتي لم يسهب في شرحها ، هي النهج الشعري العام الذي يتميز بالانفصال عن المتلقي العادي في المجتمع وكأنه يخاطب من هم في الخارج.

كلامه كان محبطاً بالنسبة لي، ليس لشغفي بالشعر على وجه الخصوص، بل لما مثل لي الأمر من وجه واضح للانكسار الذي يعاني منه المجتمع، عندما نتكلم عن الشعر فإننا نتكلم عن إبداع روحي خالص، ليس إبداعاً عقلياً أو فكرياً ، العقل والفكر يمكن إصلاحهما، وأما الروح إن كانت منكسرة فعليها السلام.

بالطبع كلامي هذا بناءً على فهمي لملاحظات شاعرنا محمد.

يسألونك عن المثقفين وعن الحكومة

أعرف أن هناك من قد يغضب منّي بسبب ما سأقوله في السطور القادمة، لكن ما أخافه أكثر هو أن يقبض علي كـمثقف، وأعرف أيضاً أنه لن يسأل عني أحد سوى بضعة رؤوس من الماعز وبكرتين في العزبة.............ومع ذلك سأبعد أفكار الخوف السوداء عن رأسي وسأكتب ما يمليه عليّ ضمير صاحب الكلمة....

كنت أكتب الكلمات السابقة وأنا متكئ على سياج زريبة الغنم، وكان التيس يتلصص من ورائي ويقرأ ما كنت أكتبه...... دخل شيء في أنفه فعطس، أفزعني فاغتظت منه.......التفت له قائلاً

-تيس فضولي، كبرت وشخت ولم تترك هذه العادة السيئة!!.

-أرجوك لا تكتب شيئاً يؤدي بك للسجن، انتظر حتى يرجع "رستم" من باكستان وبعدها اكتب ما تشاء ، لمن ستتركنا الآن لو قبضوا عليك؟! من سيطعمنا ويسقينا؟!

-أنا أكتب عن المثقفين وأصحاب الكلمة وأنت لا هم لك سوى العلف!!!.

-أضحكتني......هل قلت مثقفين وأصحاب كلمة؟!.....هل تسمح لي بإخراج بعض البعر؟ لا أستطيع مواصلة الحديث قبل أن أفعل ذلك.

-افعلها وبسرعة.

-أحححح......الآن أستطيع أن أتكلم. لعلك ستوافقني أن أي نظام غير كفؤ لا يمكن أن يستمر لسنوات طويلة كما قد حدث إلا إذا كان هناك غياب كامل لأصحاب الكلمة أو تحالف بينهم وبين ذلك النظام كأن يكونوا موظفين تابعين له، وعندما أقول أصحاب الكلمة فإني أعني كل الطيف المثقف بمختلف مرجعياته الفكرية ومنها الدينية بالطبع.

-نعم .....أوافقك على هذا أيها التيس، لكننا نرى الكثير منهم اليوم يناضلون من أجل بعض الفئات المحرومة والقضايا العادلة.

-نعم إنهم يناضلون، لكن أغلبهم يناضل كراهية في النظام الذي يرون أنه لا يلبي طموحاتهم الشخصية ورغبة في ابتزازه لا حباً في الفئات المحرومة والقضايا العادلة، مشكلة أغلب أصاحب الكلمة أنهم في تعطّش دائم للتقدير، وإلا فقدوا الثقة بأنفسهم وبتميزهم، إن ما يجمع بين المثقفين في ظل أي نظام هو حرصهم على الإعتراف بهم من قبل السلطة وحصولهم على وضع يميزهم عن عامّة الناس.......ومتى ما حصلوا على ما يريدون سيجدون مبررات كثيرة لتغيير مواقفهم.........لعلّي أستثني هنا من قد أوجد لنفسه فكراً ومنهجاً فريداً يلتزم به على الدوام وهؤلاء نادروا الوجود.

-أرى أنك قد أفقدتني مزاجي للكتابة هذا اليوم.

-أنا آسف لذلك، لكن قد يساعدك أكل بعض مخلفات الجرائد اليومية على استعادته وبعدها ستجد أن كتاباتك ترقى لكتابات المثقفين.


تلك كانت نهاية حواري مع التيس.

الخميس، 6 ديسمبر 2012

أنا حامل



يلفني الخجل من هذا الأمر، لكني رأيت أن أقصّه عليكم لاعتبارات كثيرة، كما تتملكني الحيرة فيما يجب أن أحكي وفيما يجب أن أترك، لكنّي سأحاول جهدي.....والله المستعان.

صحوت في أحدى الليالي وبي رغبة شديدة للتقيؤ، ولم تمهلني معدتي حتى أقوم من فراشي لتلفظ في فمي سائلاً حارقاً لفظته بدوري في دورة المياه، عدت للنوم وبي ألم خفيف لكنه مزعج، وفي الصباح أحسست أن بطني منتفخ وأن أمعائي تتحرك بعصبية وكأنها تتزاحم على المكان.

بعد الإجتماع الصباحي لرؤساء الأقسام بالمؤسسة توجهت للمستشفى، وبعد أن فحصني الطبيب وجهني لإجراء الفحوصات المعتادة والعودة في الغد حين تظهر النتائج........وبناءً على نصيحة الطبيب أخرت حضوري في اليوم التالي للمستشفى حتى الساعة التاسعة حين تكون نتائج الفحوصات قد وصلته من المختبر، وحين جاء دوري ودخلت كانت كل فحوصاتي جاهزة وجاء دوره ليخبرني الخبر الصدمة

-مبروك....مبروك يا ابني......أنت حامل.

-بارك الله فيك يا دكتور......أنا حامل لماذا يا دكتور؟؟!!!.....تقصد حامل لفيروس أو ماذا؟

-لا......وهل يبارك لمن يحمل الفيروس!!!......أنت بخير وعافية، كل ما في الأمر أنك حامل.

-حامل!!!!.....حامل ..... هل تعني حامل.

-نعم نعم......بالبركة يا ابني.....أظنّ أن الحمل في أسبوعه الثالث أو الرابع.

-يا دكتور ماذا تقول؟!.....لقد شككتني في نفسي، قبل أن أدخل عليك كنت متأكد من أني رجل ولست إمرأة.

-يا ابني.....هذا اعتقاد خاطئ عند الناس، يعتقدون أن الرجل لايحمل......الحمد لله رزقك من حيث لا تحتسب.......توكل على الله وإن شاء الله ستكون الولادة طبيعية.

كان متأكداً جداً ومقنعاً جداً......خرجت من عنده وأنا لا أكاد أرى، اصطدمت في الممر بالممرضة.....ثم بطاولة الاستقبال.....ثم بالباب.....عندها أيقنت أني لن أستطيع المشي أكثر، ألقيت بنفسي على أحد الكراسي خارج العيادة.....قليلاً وعاد لي بعض العقل، وتفكرت ......كيف لي أن أحمل، كما درسنا في المدرسة يحصل الحمل حين يجتمع الحيوان المنوي مع البويضة، والبويضات إنما تأتي من المبايض التي في الأنثى.....وأنا رجل وليس عندي مبايض......من المؤكد أن الطبيب على خطأ، ربما نسي هذه المعلومة، لابد أن أعود وأذكره بها.

وعدت للطبيب، كان عنده مريض فوقفت بالباب حتى انصرف ودخلت عليه

-نعم يا ابني.....لماذا عدت؟

-يا دكتور......لست مقتنعاً أني حامل، كيف يمكن أن أحمل بدون بويضات.

-أووف من الناس في هذه البلد، يا أخي أنا الطبيب وقد أخبرتك أنك حامل.......يبدو أني لابد أن أكرر الكلام هنا عدّة مرات ليُفهم......تعال وانظر لهذه اللوحة، هذا هو الجهاز التناسلي للأنثى وهذا هو الجهاز التناسلي للذكر....

-نعم يا دكتور، أنا عندي مثل هذا.....إذا ليس عندي بويضات.

-اسكت ولا تقاطعني......في حالات كثيرة وفي بعض الأوضاع المقلوبة للمعاشرة الزوجيّة تسقط البويضة من الأنثى وتتدحرج لتستقر في جوف الذكر، في هذه الحالة يحصل الحمل عند الرجل.......هل فهمت الآن؟!؟!.

-نعم فهمت يا دكتور.

-لا تجادل مرّة أخرى، وويبدو لي أن هذا أول حمل لك فلابد أن تراجع بشكل شهري العيادة المختصة لتطمأن على الجنين.....مع السلامة.



لطالما كنت مناصراً للمساواة بين الرجل والمرأة، وأنا أنظر للوحة الإرشادية التي تشير لعيادة النساء والولادة أحسست بالغبن، فمادام الرجال يحملون فكان الواجب أن تكون هناك أيضاً عيادة خاصة للرجال الحوامل.......أحببت أن ألقي نظرة على تلك العيادة فلاشك أني سأراجع فيها قريباً،دخلت فإذا كلهن نساء، ولا رجل واحد.....كما قال لي الطبيب فحمل الرجال لا يحصل كثيراً، كان بودي أن أجد واحداً على الأقل.

في طريقي للخروج صادفت رجلاً وزوجته عند الباب، ذلك ذكرني بشيء مرعب.......أنا لست متزوجاً!!!.......أي فضيحة تنتظرني، وكيف سأواجه الناس وأنا حامل من غير زواج......

قال الطبيب إن الحمل قد يكون في الأسبوع الثالث أو الرابع، حاولت أن أتذكر ممن يمكن أن أكون قد حملت......ربّما سعاد..........أو .....أخ يا ويلي لو كنت حاملاً من كونو الإثيوبية، سيكون المولود أسمر وأنا أبيض..... ستكون فضيحة ملونة.

اتصلت بسعاد، كنت أتوقع منها أن تتحمل مسئولية فعلتها

-حبيبتي سعاد، لدي أخبار مهمة أريدك أن تسمعيها بهدوء.....أين أنت الآن.

-أنا في الصالون أتجمّل، أين ستسهر الليلة؟

-في الحقيقة ياحبيبتي لا أستطيع السهر بعد اليوم ، لا بد أن أحافظ على صحتي.

-لماذا؟!.....مالجديد في الأمر؟

-لهذا اتصلت بكِ ، لقد كنت اليوم في المستشفى، وقدأخبرني الطبيب أني حامل.

-مزحة باسلوب قديم......سأحكي لك الليلة بعض النكات الجديدة.

-أنا جاد يا سعاد، وقد شرح لي كيف يمكن أن يحدث ذلك علمياً.......حبيبتي، المهم الآن أن هذا الجنين هو إبني وإبنكِ، ولابد أن نتصرف بطريقة ما.....نتزوج مثلاً.

-حميد.....أرجوك لا تفضحني، أنا متزوجة وعندي أولاد، تخيّل لو عرف زوجي أنك حامل منّي أنا؟!؟!؟.....ثم يا أخي أنت قد تكون حاملاًمن غيري.......أرجوك قدّر وضعي.


لم أكن أعرف أن سعاد متزوجة، ومادامت متزوجة فلا فائدة، لا يمكنها أن تتزوج آخر. لم أبت ليلتي تلك من التفكير، وبدا لي حينها أن الجنين يتحرك بشدة بسبب توتري، كنت أعرف من يمكن أن يساعدني ، لكني كنت أخشى من ردّة فعلها إن عرفت أني حامل.

هدى.....، تنتظرني منذ فترة طويلة، قالت أنها ردّت خاطبين من أجلي، منّيتها بأني سأخطبها منذ مدّة وكنت قد نسيت الأمر......قررت المحاولة

في الصباح اتصلت بهدى

-أهلاً بك يا حميد، لم تتصل منذ مدّة طويلة، سنة....ربما سنة ونصف، ماذا ذكّرك الآن.

-هدى هل تذكرين عندما قلتِ أنك موافقة على الزواج بي؟

-نعم أذكر.......لكنك أنت الذي نسيت.!!!

-أعرف أني تأخرت قليلاً لكني مستعجل الآن.

-حقاً!!! آسفة.....لقد أسأت الظنّ بك.....متى ستأتي لتخطبني؟

-حتى لو تريدين اليوم.......لكني أريد أن أخبرك بشيء مهم قبل ذلك.

-ما هو؟

-هدى......أنا حامل.

-حامل؟!؟!......حامل لفيروس ماذا؟

-لا ليس فيروساً......أنا حامل ...... في أحشائي جنين.

-يا خيبتي ويا خيبتك......ماذا أبقيت لي أنا إذاً؟!؟!.....هل تمزح يا حميد؟!

-لا تسيئي الظن بي يا هدى، ثم أني لا أمزح......سأخبرك بالقصة كلها.

وأخبرتها بكل ما أخبرني به الطبيب

-وهذه كل القصة يا هدى، لم أشأ أن أخدعكِ وتعتقدي أني ما زلت ...... لا أدري إن كانت كلمة مناسبة ولكني أقصد "بكر".


طلبت مني هدى مهلة حتى غد للتفكير، وفي غدها اتصلت

-حميد......لقد فكرت في ما قلته لي البارحة، وأنا موافقة لكن بشروط......أعلم أن شروطي ستكون صعبة عليك لكنك ستتفهمها بالتأكيد، أنا أعرف أنك ورثت عمارة ومزرعة وبيت عن أبيك......هل هذا صحيح؟

-نعم صحيح، لا تقلقي أنا دخلي المادي ممتاز.

-هل عندك شيء آخر؟

-نعم، عندي أيضاً أربع قطع سكنية.....قلت لكِ لا تقلقي من هذه الناحية.

-بل أنا قلقة كثيراً.......بعد تسعة شهور أو ثمانية شهور، بالسلامة إن شاء الله، سيكون عندك ولد أو بنت من غيري، وهذا المولود سيشارك أبنائي وسيشاركني في كل شيء، وهو مولود غير شرعي، بل لو مت أنا لا قدر الله سيرثني لأن الجميع سيعتقد أنه من بطني.

-ماهي شروطك يا هدى.

-أكتب كل شيء لي.......

-ماذا؟!؟!؟!.......ماذا تقولين يا هدى؟

-كما سمعت.....فكّر في الأمر وسترى أني محقة.


إما الفضيحة أو القميحة، ماذا أفعل.......قبلت شروط هدى السابقة، واتفقنا على الزواج بأسرع وقت قبل أن يكبر الجنين في بطني ويكون حملي ظاهراً، أشياء كثيرة كنت أفكر فيها وتزعجني.....الرضاعة .....آلام الوضع.....

لا أود أن أطيل عليكم ، تزوجنا أنا وهدى بعد شهر، وطوال ذلك الشهر كان الجنين لا يهدأ في بطني، ربما بسبب قلقي الذي انتقل له، لكن بعد يومين من زواجنا لاحظت أن الحركة في بطني هدأت كثيراً، بل وقل حجم بطني قليلاً، خفت أن يكون مكروه قد أصاب الجنين.....في صباح اليوم الثالث كان القلق قد استبد بي ورأيت أني لابد أن أراجع الطبيب لعمل صورة للجنين.

ذهبنا أنا وهدى للمستشفى، فوجئت في مكتب الإستقبال بشخص أعرفه، فخجلت أن أطلب تحويلي لعيادة الحوامل مباشرة وطلبت عوضاً عن ذلك التحويل للعيادة الباطنية عند الطبيب الذي كشف عليّ أو الأمر، كنت أنوي أن أطلب منه أن يحولني هو لعيادة الحوامل ويوصي لي بعمل صورة للجنين.......لكني حين جاء دوري ودخلت وجدت طبيباً آخر، قدمت له بطاقة المستشفى وبادرني هو بالسؤال

-خير يا أخي حميد مما تشتكي؟

-يا دكتور منذ يومين أحسّ أن الجنين لا يتحرك!!!

-ماذا ؟!!! أي جنين؟؟......تقصد زوجتك؟!

-لا يا دكتور.....أنا حامل......منذ حوالي شهرين وهذه ثاني مراجعة لي.

لم أعلم حينها ماذا حدث للطبيب، حاول في البداية كتم ضحكاته حتى احمر وجهه وانتفخ وصار كالكرة، ثم أطلق ضحكات مدوية .....كان يحاول جهده ليمنع نفسه لكنه لم يستطع.......تملكتني أنا الدهشة، ثم شعرت بالضيق لمّا استمر في ضحكه......كان كلما نظر في وجهي انفجر ضاحكاً......

عندما يأست منه أن يتوقف عن الضحك، وقفت وأنا أنوي أن أشتكي منه.....شعرت للحظة أنه يعاني من نوبة جنون، لكنه عندما رآني وقفت وقف معي ثم ترجّاني أن أبقى حتى يفحص ملفي الطبي، وعندها جاءته نوبة أخرى من الضحك أطاحت به من فوق كرسيّه......لكنه وبشكل مفاجئ التفت لي وهو يحاول أن يكون حازماً والدموع تنهمر من عينيه، قال

-أعترف لك يا أخي.....أنا ارتكبت أخطاء طبية كثيرة، بعضها فضيع.....لكني أبداً لم أحلم أن أصل لمستوى الطبيب الذي كشف عليك......إنه عبقري للغاية.........لكن أخبرني ماهي كميّة الغباء العبقرية التي في رأسك لتصدق أنك حامل.......هيا أخرج عني أرجوك وإلا ستقتلني من الضحك.....

أحسست أني كومة من الغباء.....لم أقو حتى على رفع بصري في وجهه......وخرجت عنه ......خرجت عنه أحمل جبلاً من الخجل......كانت هدى تنتظرني خارج العيادة، جائتني والقلق بادٍ عليها......لم أكن لأجرؤ على إخبارها بقلة عقلي

-يا حبيبي....تبدو محطماً....أخبرني هل حدث مكروه للجنين؟!؟!

-نعم يا حبيبتي......لقد أخبرني الطبيب أن الجنين لم يعد في بطني، ربما سقط دون أن أعلم......ربما بسبب الإمساك الذي عانيت منه قبل يومين، كنت أضغط على نفسي كثيراً لابد أنه سقط أثناء استعمالي لدورة المياه.

-لا عليك يا حبيبي، ولا تحزن......سأحمل أنا وأعوضك إن شاء الله.

ومر الأمر على خير، حتى بعد أسبوعين أخبرتني هدى بأنها تشتبه بأنها حامل، أخذتها للعيادة النسائية، وانتظرتها بالخارج.......وإذا بها تخرج لي وهي متهللة فرحة، بل كادت تعانقني أمام الناس لولا أني نبهتها....اقتربت مني تقول

-أبشر يا حبيبي.....أنا حامل، لكن لن تصدق ما حدث.....الجنين عمره حوالي ثلاثة أشهر.

-ماذا!!!.....لكننا تزوجنا فقط منذ شهر ونصف!!!!.....كيف يكون عمره ثلاثة أشهر.

-يا حبيبي.....ألم تفطن بعد لما حدث؟!؟!؟!......لقد تدحرج الجنين من بطنك إلى بطني......هذا يعني أنك لم تفقد جنينك......قل الحمد لله.

وخرجنا من العيادة، وأنا أحمل هذه المرّة جبلاً من الخيبة والذلّ دون أن أستطيع أن أقول شيئاً، بل كان عليّ أن أظهر الفرح والسرور بأن زوجتي حامل من غيري...........

انتظروا هذا ليس كل شيء.......لقد ولدت هدى ولداً أسمر، وحين رأته أسمراً اتهمتني بأنه ولدي من كونو الإثيوبية......وكان عليّ أن أطلب السماح منها على خطيئتها وأن أربيه لها ..........يا خيبتي.


النهاية

بنت السيّد




لو كانت النخلة أطول بعشرين أو ثلاثين سنتيمتراً لضمني ظلها، هكذا كنت أفكر وأنا أجهز الأرض للزهور قرب الممر، فتح باب وفرت منه بضع نغمات بيانو تسابقها مناداة باسمها........ خنقت نغمات البيانو وولدت نغمات خطى لاهية، اشتقت للنظر لكن الشمس رفعت سياطها على جانب وجهي فبقي دون التفات، اقترب عزف الخطى نحوي على إيقاع قضم تفّاحة، وقفت العازفتان اللاهيتان أمامي على الممر الحجري، أبصرتهما على إيقاع مضغ التفاح، قدماها ..... قدّيستان توأمتان، مستلقيتان على سريرين ورديين وتلبسان عقدين مزينين بالؤلؤ.


قالت وهي تدير مضغة التفاح بلسانها

-أنت جديد!؟

وددت أن أرفع وجهي لأجيبها لكن أشواك الشمس اخترقت عيني فأعدت وجهي للأرض، قلت

-نعم سيدتي......بدأت عملي هنا اليوم فقط.

عزفت خطوتين للأمام ثم استدارت لي قائلة

-عرفت أنك جديد، يد البستاني السابق كانت أكثر سمرة من يدك.

تمايل أسفل ردائها في حركة لولبية ونفرت شرايين القديستان تحت البشرة الشفافة...... قضمت تفاحتها .......قالت

-لا أحب هذه النخلة تحت نافذتي، كلّها أشواك، لا أدري مالذي يعجب أبي فيها!!!، سأقترح عليه أن يقلعها ويضع مكانها شجرةً أخرى، ما رأيك؟

-سيدتي....النخلة هذه بلدها ، أين ستذهب المسكينة لو قلعت.

هيء لي أنها أمسكت ذقنها تفكّر خلال السكتة التي أعقبت كلامي. نزلت من الممر للعشب تمشي، أحسستها وقفت بين ورائي والنخلة، فكرت أنها اللحظة المناسبة لأرى وجهها دون أن تراني الشمس، تظاهرت أني أزحف للوراء أبحث عن شيء حتى غافلت الشمس وتلحفت بظل النخلة، رسمت ملامح العفوية على وجهي واستدرت نحوها......شهقت وأنا أسقط من أعلى شلّال الشعر وأنساب معه حتى الخصر، تعلقت بأطرافه الذهبية أتأرجح.

لا أدري متى التفتت نحوي، أجزم أن السقوط والتأرجح أفقداني الوعي للحظة، تمنيت لو أن خالها الذي بين حاجبيها هو بيتي. قالت وهي تمسح رحيق التفاح عن جانبي الفستقة

-تكلمت عن النخلة وكأنها شيء حي، لقد نظرت لها الآن.....إنها ليست إلا شجرة.

من فرط جمالها أشفقت على نفسي وفضّلت أن أعود بوجهي حيث كان، قلت

-نعم يا سيدتي، هي شجرة لكنها مع ذلك تشبه أهل هذه البلد، قامتها مستقيمة ، وكريمة ، وصبورة.

شعرت بالتفاتتها نحو النخلة قالت وصوتها متجه لهناك

-أممممم......فعلاً، كيف لم أنتبه لذلك، ولها شعر أيضاً، لكن لا تعجبني تسريحتها.


تغير فصل السنة، وجئت بزهور الربيع الملونة لأزرعها. فتح الباب وخرجت منه الخطى اللاهية بإيقاع متسارع، انتظرت حتى وقفت أمامي، قالت

-أريدك أن تحلق شعر هذه النخلة التي بقرب نافذتي.

-تقصدين أقطع سعفها، لكن لماذا يا سيدتي؟!......السعف ضروري للنخلة.

-إنها تخربش على نافذتي طول الوقت، أكاد أموت غيظاً بسبب خربشتها الغبيّة.

-أستطيع يا سيدتي أن أقطع السعف، لكن لا يمكن وقف الريح، ستنمو سعفات جديدة وستحركها الريح هي الأخرى وستخربش.

-إذن اقلع النخلة بكلها.

-سيدتي..... أرجوك، قد يغضب منّي أبوك لو فعلت ذلك.

-لا تقلق لهذا الأمر أبداً، هناك نخيل صناعية لا تحركها الريح، بعد أن تقلع هذه سنضع واحدة مكانها ولن يحس أبي بالفرق.


شكراً لكم.

بائع الرماد


مكر النساء



يحكى عن رجل اسمه عامر قصة ظريفة مع أمه، كانت تردد أمامه منذ صغره قولتها "يومي قبل يومك يا حبيبي"، فأراد يوماً اختبار صدقها، أخبرها أنه ذاهب في قافلة للساحل ليتعلم التجارة مثل أبيه المتوفى، لكنه عاد في الليل متخفياً، كانت هي قد أغلقت على نفسها غرفة الطين، وقف بالباب وغيّر صوته وأخذ ينادي
-يا عامر....يا عامر....
أجابته من الداخل وهي فزعة
- من أنت
-أنا عزرائيل وقد جئت لآخذ روح عامر.
-عامر ليس هنا، عد من حيث أتيت.
-إذن سآخذ روحك أنتِ بدلاً منه، لا أستطيع العودة بدون روح.
-لا.... أرجوك........اذهب وستجده في قافلة في الطريق المؤدي للساحل.

ضحك منها بشدة، لكن هذه الحادثة أقنعت الأم أن عامر قد كبر وصار يفهم الكثير، فأرادت أن تبعثه للساحل في تجارة، ومع أنه لا يملك شيئاً يتاجر به، إلا أن الأم الذكية تعرف أن نساء المدينة على الساحل يتجملن ويتزينّ، ومما يفعلنه في ذلك أنهن ينزعن شعر الجسم باستخدام عجين الطين والرماد. أشارت على عامر أن يجمع ما استطاع من الرماد ويذهب به إلى الساحل ويبيعه في السوق.

ملأ كيساً بالرماد وسار به على ظهره لثلاثة أيام حتى وصل للساحل، جلس في ساحة السوق يعرض بضاعته، وكلما مرّ عليه أحد ونظر لما في الكيس ضحك منه، حتى جاءت امرأة عجوز ووقفت متعجبة، ثم تفرست في الفتى الذي لم يكتمل شاربه بعد وقالت
-أبوك غائب وأمك من بعثتك هنا لتبيع الرماد.
-نعم......كيف عرفتِ ذلك.
-يا ولدي كاد السوق أن ينقضي، وبعد قليل ستغرب الشمس، وأنت ليس لك مكان تبيت فيه، هيا معي ، فلن يشتري أحد منك هذا الرماد.

ألقى عامر الرماد وتبع العجوز إلى بيتها، وهناك أرسلت العجوز في طلب زوجة القاضي وطلبت منها استضافة الفتى في بيتها لتلك الليلة، طلبت زوجة القاضي من الفتى أن يستعد حتى تذهب وتعد المكان وتعود لاصطحابه، ذهبت وأعدت الفراش وبخرت الغرفة وجهزتها بالماء والطعام، ثم استأذنت زوجها أن تبيت مع أمها تلك الليلة لأنها مريضة، وقبل أن تخرج لأمها متعجلة تذكرت أن تخبره بأن قريبها سيصل هذه الليلة من السفر مع زوجته وأوصته بأن يدخلهما الغرفة ليناما وسيغادران في الفجر، عادت لبيت العجوز وبعد اختلاط الظلام طلبت من عامر أن يمشي أمامها لبيت زوجها وهي خلفه متجللة بالعباءة، طرق عامر الباب وكلم القاضي بأنه قريب زوجته ، رحب بهما القاضي وأدخلهما الغرفة وذهب لينام في العريش. قبل الفجر قامت الزوجة وأيقظت عامر وخرجا من البيت إلى بيت العجوز.
شكر عامر العجوز بعد أن فهم الرسالة وعرف أنه وقع ضحية لمكر أمه وعزم على البقاء هنا وعدم العودة.



لحية عامر

عمل عامر عند أحد التجار، ولما رأى التاجر حسن أخلاقه وجده في العمل عهد به إلى معلم، وبعد أن تعلم وصار حاذقاً بعثه في تجارته، سافر لمدن عديدة وتعلم أشياء كثيرة، ثم وقع في حب بنت التاجر الجميلة الذكية مريم، ووقعت هي في حبه، وتزوجا وعاشا بهناء وسعادة.
اكتملت رجولة عامر، وأنجب من مريم ولداً وسيماً وبنتين جميلتين، عبدالله في الثامنة عشرة، وريم في السابعة عشرة وجوهرة في الخامسة عشرة، وصلته أخبار أن أمه قد توفيت، وفي لحظة كان ينظر فيها لأبنائه على الغداء وجد نفسه يقرر أن لا مفر من العودة.
عندما عاد للبلدة فاجأت هيئته الكل، لقد كان حليق اللحية على خلاف الرجال هناك، وصار كل الرجال يتكلمون مستهجنين هذا الأمر، في أول يوم من وصوله، اجتمع الرجال بعد صلاة المغرب، وقرروا أن وجوده بهذا الشكل خطر على بلدتهم، قال أحدهم
-سيراه الأبناء وسيقلدونه وسيحلقون لحاهم.
وقال آخر
-هذا فاسق.
وقال ثالث
-هذا متشبه بالنساء.

اتفقوا على أن يطردوه من البلدة، وبعثوا له من يخبره بأنهم يمهلونه حتى الصباح ليخرج، وإن رأوه بعدها فلا يلومن إلا نفسه.
احتار عامر كيف يفعل، لكن مريم كان عندها الرأي السديد، نصحته بأن لا يخرج من البيت ، وهي ستتكفل بكل ما يحتاجونه من الخارج حتى ينمو شعر لحيته. في صباح اليوم التالي كان الرجال متأهبين خارج البيت ليشاهدوه وهو يرحل، كان يعلو وجوههم الغضب والنظرات المتحفزة. خرجت مريم تحمل وعاءً قاصدةً البئر لتحضر الماء، وعلى عادة نساء الساحل كان حجابها لا يغطي وجهها بخلاف نساء البلدة، من فرط جمالها فتحوا أفواههم وهم ينظرون لها، ثم تدافعوا نحوها ليساعدوها على جلب الماء، وكادت تنشب نزاعة بينهم على من سيحمل لها وعاء الماء إلى بيتها، لكنها بحكمتها المعتادة وفقت بينهم وقسمت العمل عليهم طوال الأسبوعين القادمين.








عامر الساحر


كل الرجال كانوا معجبين بمريم، ويحسدون عامر على جمالها، لكنهم كانوا يذمونها أمام نسائهم، تعودوا على القول "إنها شيطان يمشي" و "إنها من عمل إبليس" و "نخاف أن تفتن أبناءنا" ، وعندما سمعت النساء هذا الكلام عن مريم بدأن بزيارتها ليتعلمن من فتنتها، كانت رقيقة عفيفة ، كلامها لطيف وملبسها نظيف، وعلى عادة أهل المدن مجلسها مزين ومطيّب....تعجبت إحداهن من جلدها الخالي من الشعر، فأخبرتها مريم بالسر، وأعجبت أخرى بشعرها المنسدل الفواح، فأهدتها مريم دهناً معطراً، وامتدحت ثالثة لؤلؤ ثغرها فأرشدتها للسواك.
بعد أسبوعين كانت لحية عامر قد نمت، لم يكن طولها بمقاييس البلدة إلا أنها كانت كافية للجم الأفواه. أول خروجه كان للصلاة، وبالرغم من أن الجميع تجاهله في البداية إلا أنه بخبرته في التعامل التي اكتسبها من عمله في التجارة استطاع أن يكسر الجليد بينه وبين البقية. وأيضاً من خبرته في الأسفار والاتجاهات ومواقع النجوم أدرك أن اتجاه قبلة المسجد منحرفة عن الوجه الصحيح، وما إن أبدى هذه الملاحظة حتى ثار عليه الإمام، واتهمه أنه يريد أن يشكك الناس في دينهم، ثم أخذ يؤلب الناس عليه.
سكت عامر حتى أنتهى الإمام، ثم أشار إلى أنقاض المسجد القديم الباقية بمواجهة المسجد الحالي، وكان الفرق واضحاً بين المسجدين في اتجاه القبلة. ما إن أدبر عامر عنهم وهم متعجبين كيف لم يلاحظوا طول هذا الزمن اختلاف القبلة حتى قال الإمام
-هذا ساحر...نعم ساحر.....لقد أدار المسجد عن القبلة بسحره.
قال واحد عن يمينه
-أنا أشهد أنه ساحر.....ومن يقدر على هذه غير الساحر!!!
ثم رددوا كلهم....نعم هو ساحر.
دعا الإمام الكل للاجتماع في الغد للتشاور في أمر الساحر عامر، كان في ذهن الجميع أنهم سيفعلون معه مثلما فٌعِل قديماً مع أحد السحرة من بلدتهم، سيدعونه لوليمة، وسيدسون له الزنيخ في الطعام، فإن سقط يتلوى فهو ساحر وسيموت سريعاً، فالسحرة يسمهم الزرنيخ، وإن كان غير ذلك فلن يضره.
لكن الأوان كان قد فات على هذه الخطة، ففي صباح ذلك اليوم كانت حسينة بنت الإمام قد دخلت مع أمها لبيت عامر، ورآها ابنه عبدالله، ورغم أنها مازالت في السن صغيرة وبالكاد بلغت الثالثة عشرة، إلا أنها كانت قد استوت، ونمت محاسنها وأثمرت، سقط عبدالله صريع سهمها من فوره، وأقسم أن لا يأكل ولا يشرب حتى يكلم أبوه أباها، وما كاد الإمام يصل لبيته وهو يفكر في أحداث الغد حتى طرق عامر الباب، وكلم الإمام في أمر الصبية الحسناء.
مثل عامر لا يرد ، تاجر وغني، وابنه متعلم ومؤدب....هذا كان كلام الإمام في نفسه لنفسه....
وهكذا اتفق عامر والإمام على أن الصبية الجميلة للفتى الوسيم، وكانت مناسبة أن يتعرف الإمام أكثر على عامر ويقتنع تماماً أنه ليس بساحر، والأكثر من ذلك أنه تأكد من تقواه وصلاحه وكرمه وعلمه.....هكذا قال الإمام لأهل البلدة حين جاءوا في الغد ليتفقوا على قتل عامر!!!.


عامر الباني


مضت السنين، وصار عامر مضرب المثل في كل شيء، كيف لا وقد تبدلت كل أحوالهم بسببه، حتى نساؤهم صرن أجمل، ورجالهم صاروا أكثر دماثة وعقلاً، وأبناؤهم وبناتهم صاروا يتعلمون في كتاب أنشأه بقرب المسجد.
نظر يوماً للوادي الذي أسفل البلدة فرآه يجري بالماء، وعندما سأل عن سبب عدم استغلاله لزراعة المزيد من الأرض قيل له أن أهل البلدة التالية يعترضون على ذلك مع أن الكثير من الماء يذهب هدراً........كان عامر قد رأى في بلاد الفرس كيف تبنى السدود على الأودية، فكر في بناء سد على الوادي، ثم منه تشق قناتان متساويتان لكل بلدة. عرض الأمر على أهل بلدته والبلدة الأخرى، واتفق الجميع على الرأي السديد، وتعاون أهل البلدتين على سد بوابة الوادي الضيقة بالحجارة المرصوصة، فتكونت خلفها بحيرة ماء عظيمة......زادت الزروع والمواشي، ونشطت تجارات الثمار والحبوب مع الساحل، وصار الناس أغنى، وثيابهم أحلى، ورائحتهم أطيب، جددوا بيوتهم ووسعوها، وجملوا بلدتهم ونظفوها.....صار البِشر يعلوا الوجوه، والحمد للمولى على نعمه على كل لسان وفي كل حين.



موت عامر



وتمضي سنين أخرى، شاخ عامر وشاخت مريم، في كل جمعة يجتمع لديه ابنه عبدالله وابنتيه التين تزوجتا وأبنائهم، عبدالله أنجب ولداً سماه على اسم والده "عامر"، كان جده يحبه كثيراً لأنه يشبهه. في أحد الأيام انتبه عامر من النوم وقد طلعت الشمس، لم توقظه مريم كعادتها لصلاة الفجر، لأنها نامت نومتها الأخيرة. بكاها عامر أياماً وليالي، ولم تفلح مواساة الأهل والأصحاب، أكل الحزن كبده وقلبه...ومات بعدها بعشر ليال.
فجع الناس بموت عامر وقبله مريم، بكوهما ترحموا عليهما، ولم يبقى بعد ذلك سوى التقدير والاحترام لذريتهما من بعدهما.


عبدالله



مضت أعوام بعد وفاة عامر، والبلدة كما كانت على عهده، والناس تسري بينهم روح المحبة والتعاون التي أشاعها في حياته. إبنه عبدالله كان رجلاً طموحاً، وقد رأى ما وصل له أبوه وما كان له من فضل على أهل بلدته وغيرهم، لكنه كان دوماً يأخذ عليه لينه وطيبته.
في أحد الأيام من تلك السنة الخصيبة أراد رجل من أهل البلدة أن يستصلح أرضاً بوراً ليزرعها قمحاً، وبعد أن بدأ العمل بتمهيدها وتنظيفها فوجئ بعبدالله مع رجلين من أعوان الحاكم يطلب منه التوقف، ولما استفسر الرجل المسكين عن السبب أخبره أن استصلاح الأرض تعدٍ على أملاك الدولة.......وهكذا بدأ عبدالله يتدخل في كل شأن بعد أن فوضه الحاكم لتطبيق القوانين الجديدة . بدأت الأحوال تتغير، وبدأ الحسد يدب في قلوب البعض بسبب الحضوة التي يجدها عبدالله عند الحاكم، واحتدم التنافس بين الجميع. مرت بهم سنة مجدبة حبس فيها المطر، فقطع عبدالله الماء عن البلدة الأخرى ووجه مياه السد لبساتينه، فما كان من أهل تلك البلدة إلا أن هدموا السد ليعود الماء للوادي. ثم أعقبت تلك السنة سنة مجدبة أخرى، فانقطعت كل المياه من الوادي، ويبست البساتين، وتوقفت التجارات، وهجر البعض البلدة، ومات عبدالله كمداً وهو يرى بساتينه تصفر وتيبس.


عودة عامر


مات عبدالله وترك ابنه عامر وهو في عمر العاشرة، ويحكى أن أمه كانت لفرط حبها له تردد دوماً "يومي قبل يومك يا حبيبي" وأنه حينما بلغ الرابعة عشرة كان يبيع الرماد في سوق الساحل.



النهاية